"النصر آت والفجر آت.. والدولة على مرمى حجر، يا جبل ما يهزك ريح، سيرفع شبل من أشبالنا وزهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق مآذن القدس، وكنائس القدس، وأسوار القدس، شاء من شاء وأبى من أبى..، كلمات حفظها الفلسطينيون، صغيرهم وكبيرهم، عن الرئيس الخالد "أبي عمار".
وبعد خمسة أعوام على رحيل الرئيس الرمز التاريخي (محمد عبد الرحمن عبد الرؤوف القدوة الحسيني)، وهو الاسم الحقيقي لياسر عرفات، لا تزال أسباب استشهاده لغزاً محيراً، في ظل اقتناع الفلسطينيين، مسؤولين ومواطنين عاديين، بأنه قضى مسموماً، وشكوكهم بقيام "اسرائيل" بدس السم له، بضوء اخضر من الولايات المتحدة الأميركية، بالنظر الى التهديدات العديدة بالقتل، التي سبق أن تعرض لها من قبل رئيس الحكومة الاسرائيلية السابق أرئيل شارون وبعض معاونيه، والحصار الخانق الذي فرض عليه في مقره في رام الله من قبل تل أبيب وواشنطن معاً.
في الحادي عشر من تشرين الثاني، يستذكر الفلسطينيون أبا عمار، الذي قاد النضال الفلسطيني لسنوات عديدة، وبات رمزاً يجمع عليه الكل الفلسطيني، حيث أصبح ضريحه "المؤقت" في ساحة مقر الرئاسة الفلسطينية التي حوصر فيها مزاراً للفلسطينيين كلما شعروا بالحاجة لوجوده بينهم.
التقرير التالي، يرصد مشاعر المواطنين بعد حمسة أعوام على رحيل "الختيار" كما يحلو للجميع أن يسموه، ذلك في مقابلات مع شرائح مختلفة ممن عاصروه وعايشوه.
البطل والانسان:
الدكتور ناصر القدوة، وهو نجل شقيقة الرئيس الراحل ياسر عرفات، قال أن حياة الرئيس أبو عمار الحافلة بالنضال والأعمال البطولية، لم تخل يوماً من العاطفة الصادقة والانسانية التي تصل الى السماء السابعة، فالرحمة التي وضعها الله في قلب الرئيس وأبوته ليس لها نظير، "لا اعتقد أنه يوجد طفل فلسطيني لم يشعر بحنو الرئيس.. دائماً كنا نسميه (الوالد)، صغيرنا وكبيرنا كان يردد راح الوالد وجاء الوالد، قصة الأبوة في حياته لم تكن عابرة".
وحول ما اذا كان الرئيس الراحل قد تعرض للاغتيال بالفعل، قال القدوة: "كل خبير استشرناه بين أنه حتى السم الأكثر بساطة والذي يستطيع عالم متوسط انتاجه، سيصعب تحديده من قبل عالم فذ،"، وأضاف: "لا استطيع أن أحدد يقيناً أن اسرائيل قتلته، لكنني أيضاً لا أستطيع أن أنفي هذه الامكانية، فالأطباء أنفسهم لم يلغوا هذه الفرضية".
كما أوضح القدوة أن الرئيس أبو عمار وبسبب تواضعه المفرط، لم تكن الحراسة عليه بالمستوى المطلوب، حيث كان يقابل مئات الزوار أثناء فترة حصاره في المقاطعة، فهو لم يرد أحدا في حياته، وكان يحصل على حلوى وحتى أدوية منهم، كما كان معرضاَ للوخز بدبابيس يعلقها بعضهم على صدره بملابسه، وتلقى هدايا كثيرة بغير رقابة.
غصن زيتون وبندقية:
اسماعيل محمد أحد نشطاء كتائب شهداء الأقصى، والذي أصيب بعدة عيارات نارية خلال دفاعه عن الرئيس أبو عمار أثناء الأيام الأولى للاجتياح الاسرائيلي لمدينة رام الله في حملة السور الواقي العام 2003، قال في هذه المناسبة: "أعمال الرئيس هي التي رسخت أبوته لشعبه، فهو يتميز بصفات لا يملك صديق أو عدو انكارها، كصلة الرحم وحرصه الشديد على زيارة المصابين والمرضى، وكذلك اسر الشهداء والأسرى في الأعياد، اضافة الى تقديمه المساعدات للمعوزين بشكل واسع..، شعوره النبيل مع شعبه منقطع النظير، كل الكتب التي كانت تصل اليه بخصوص المساعدة، كان يصادق عليها سواء اكانت مساعدة في زواج أو دراسة أو سفر أو علاج".
أما اللواء محمد الخضر رئيس رابطة الجرحى العسكريين في فلسطين، والذي عاصر "الختيار" في معظم الملمات والمواقف والمعارك البطولية، فأوضح أن أبا عمار كان مسكوناً بحب فلسطين منذ أن كان طالباً في المرحلة الثانوية يدرس في حي السكاكين في القاهرة، الى أن لقي وجه ربه في اليوم الحادي عشر من تشرين الثاني 2004.
ويضيف: "كان أبو عمار بطلاً مقاتلاً جسوراً وشجاعاً، لا يعرف الجبن أو الخوف، كان يغرس المعنويات في نفوس المقاتلين، يهتم بالآخرين أكثر من نفسه، لقد كان بحق غصن زيتون وبندقية".
التمسك بالثوابت:
ويشاطر ابراهيم أبو النجا "القيادي البارز في فتح"، الفلسطينيين في الحديث عن المحطات التاريخية والعظيمة في حياة الرئيس الراحل، فيقول: "الفلسطينيون لن ينسوا رئيسهم الخالد أبو عمار ومواقفه المشرفة والتي من أبرزها اعلانه في الثامن من كانون الثاني من العام 2001، انه يرفض المقترحات الأميركية التي قدمها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون للجانبين الفلسطيني والاسرائيلي، والتي تضمنت التنازل عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وتحويل القدس الى مدينة مفتوحة فيها عاصمتان واحدة لليهود والأخرى للفلسطينيين".
ويضيف: "لقد حافظ "الختيار" على صلابته وتماسكه، وظل متمسكاً بالثوابت الفلسطينية، وبالأخص سيادة الفلسطينيين على القدس المحتلة عام 1967، بما فيها المسجد الأقصى المبارك، وكما عهدنا به، فهو لم ينحن لكل الضغوطات الأميركية والاسرائيلية والدولية، التي مورست ضده لثنيه عن مواقفه، والتي أدت لاحقاً الى حصاره وتصفيته".
وختم أبو النجا حديثه بالقول: "لا شك أن الظروف المفاجئة والغامضة التي غيبت الرئيس عرفات، رسخت، لدى الشعب الفلسطيني عموماً ولدى حركة فتح على وجه الخصوص، قناعة بأنه تم اغتياله"، مشدداً على أن هناك قلقاً بالغاً لعدم معرفة أي شيء عن اغتيال الرئيس الراحل بعد مرور أربع سنوات على رحيله، مؤكداً على أهمية وضرورة انجاز ملف التحقيق بهذا الخصوص بشكل كامل ودقيق يكشف الحقيقة.
الوحدة الوطنية:
ويجمع الفلسطينيون بشتى انتماءاتهم وأطيافهم السياسية أن الرئيس الراحل "عرفات" كان رمزاً للوحدة الوطنية بكل ما تعني الكلمة من معنى، وكان يؤمن بأن البندقية الفلسطينية يجب أن توجه فقط الى صدر العدو المحتل، باعتبار أن الدم الفلسطيني خط أحمر لا يمكن تجاوزه.
ويرى المواطن مراد ربايعة من مدينة جنين أن اسرائيل اغتالت الوحدة الوطنية عندما اغتالت الرئيس أبو عمار وكذلك الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، موضحاً أن الرئيس كان حاضراً بقوة في كل المناسبات الوطنية بما فيها تلك الخاصة بحركة حماس، "لقد أقام بيوت للعزاء في المقاطعة 3 ايام عند استشهاد الشيخ ياسين، وكذلك للرنتيسي، ومن قبلهم للشهيد البطل يحيى عياش".
ويستذكر نعيم الطوباسي نقيب الصحافيين الفلسطينيين، كيف أن الرئيس الراحل أبو عمار انتدبه لاستقبال الشيخ أحمد ياسين في الأردن عقب الافراج عنه من سجون الاحتلال ونقله الى هناك لتلقي العلاج، مشيراً الى أن الشيخ ياسين حمّله رسالة شفوية الى أبي عمار قال فيها: "بلّغ ابا عمار تحياتي وسلامي وقل له أنت القائد وأنت الرئيس وأنت الأب، ونحن معك على الدرب".
أما المواطنة أم علي (75) عاماً من مدينة اللد المحتلة وتسكن في مدينة رام الله، فقالت بهذا الخصوص: "كان ابو عمار أبا الوحدة الوطنية، كان يقبل رأس الشيخ أحمد ياسين في كل مرة يلتقيه، كان يسقيه الماء بيديه، لو كان عايش لليوم كان ما شفنا الأخو بيقتل أخوه"، وتضيف بلهجتها القروية البريئة: "أنا عمري 75 سنة، عمري ما شفت رئيس بقبّل أيدي وأرجل الجرحى الا أبو عمار، كان الله يرحمه أبو الجميع".
منقول