حاجز الموت ... اقراها ولا تتردد

10/أغسطس/2009

لقد كانت هذه الليلة دافئة كدفء دموعه المتساقطة بغزارة من عينيه المحمرتين على وجهه القمحي, كان يشعر بالحنق والأسى، رأسه يكاد ينفجر من شدة التفكير، قلبه يخفق بقوة، رفع يده وسحق دموعه المنبجسة بطرف كمه ، عادت به الذاكرة إلى ظهر هذا اليوم، لقد كان عائداً من وظيفته وسعادة تغمره ، فمدير الشركة أثنى عليه أمام الموظفين ، ووعده بمكافئة مالية وترقية، استقل سيارة أجرة إلى ميدان الحرية حيث يسكن، أعطى السائق أربعين بنساً فقال السائق: من هنا إلى ميدان الحرية بخمسة وأربعين بنسا.

قاطعه وعلى وجهه علامات الاستغراب : ماذا أنا يوميا استقل سيارة الأجرة بأربعين بنساً .

قال السائق : هذه هي الأجرة التي حددتها البلدية.

فناوله خمس بنسات مكرهاً، انطلقت السيارة، ونفثت خلفها غيمة رمادية اللون، كالعادة عندما يستقل سيارة أجرة سحب سيجارة وأشعلها، ونفث دوائر رمادية ما لبثت أن تباعدت وتلاشت داخل السيارة، رائحة السجائر الكريهة استفزت السائق الذي بدوره اظهر تذمره الشديد وقال بصوت ينم عن غضب: ارجوا المعذرة إن دخان سيجارتك يوذيني.

تظاهر انه لم يسمع وقال في نفسه: يا له من سائق مزعج، لم يكتف بأربعين بنساً وها هو يتدخل بما لا يخصه ،سحب نفساً عميقاً و ألقى بالسيجارة خارج السيارة، تأرجحت السيجارة المشتعلة في الهواء و سقطت على بقعة من البنزين المتسرب من إحدى السيارات، فاشتعلت بقعة البنزين وتصاعدت السنة اللهب.

تفاجأ سائق الحافلة المسرعة التي كانت تسير خلف سيارة الأجرة بهذه الكتلة الملتهبة التي تتوسط الطريق، فانحرف يسارا محاولا الابتعاد عنها قدر المستطاع ،فخذلته خبرته الطويلة، فاصطدمت الحافلة بقوة بالرصيف وانقلبت على المارة محدثةً ضجيجاًثاقباً، في هذه اللحظات ركن سائق الأجرة السيارة جانباً، وانطلق مهرولاً إلى مكان الحادث ، أما هو فظل جالساً غير قادر على استيعاب ما حدث ، وشعر للوهلة الأولى انه يحلم ،ثم تحرك كالمجنون وتقدم من بين الزحام بصعوبة بالغة ،أذهله ما رأى... ساعتها شعر بآلاف المطارق تضرب رأسه ، أطفال في عمر الزهور ملقون على الأرض وملطخين بالدماء ، تقدم أكثر فأبصرت عينيه سائق الحافلة مبتور الرأس ، أخيرا تأكد انه ليس في حلم وانه أمام مجزرة اقترفها بسيجارته اللعينة وهمس:( أطفال أبرياء لا ذنب لهم، ذنبهم الوحيد أنهم كانوا عائدين من رحلتهم الترفيهية).

نسج النوم خيوطه المظلمة على عينيه المحمرتين،فحاول مقاومة النعاس.

فوجد نفسه وسط ساحة كبيرة لا نهاية لها تضم آلاف المنادين بإعدامه، أخذه حارسان ووضعوه في قفص الاتهام أمام مجموعة من القضاة، نظر حوله بإمعان فأبصرت عيناه أطفالاً صغاراً ملابسهم ممزقة و بقع الدم تبللهم و يتوسطهم سائق الحافلة وهو يحمل رأسه بين كفيه ، ضرب القاضي بالمطرقة وقال: سكوت سكوت.

و أشار بيده وقال: أنت مذنب وتستحق عقوبة الإعدام، أين الشهود؟

فكاد يصرع عندما رأى السيجارة تشهد انه المذنب، وحاول الدفاع عن نفسه، فتلجم لسانه ولم يستطع الكلام، سحبه الحارسان إلى المشنقة ووضعوا حبل في عنقه، فاستيقظ من نومه مذعورا وتحسس عنقه ثم مد يده وتناول كأساً من الماء.

و في وسط الظلام الحالك الذي يبتلع الغرفة ، تحسس علبة السجائر وسحب سيجارة وأشعلها، وسحب نفساً عميقاً كاد يخنقه، فرمى السيجارة أرضا وقال محدثاً نفسه وهو يهذي

­­– أنت يا لعينة...أنت من قتل الأطفال ...الموت لك ولمن صنعك...أنا لم افعل سوى أني ألقيت السيجارة فحسب...لا ..سائق الأجرة هو المذنب لأنه طلب مني إلقاء السيجارة...لا بل سائق الحافلة الأبله هو السبب،ثم وضع يديه على رأسه من شدة الألم وقال:

– أنا المجرم والمذنب والقاتل ...أنا من ألقى السيجارة ... نعم أنا القاتل... اعترف و يجب أن أعاقب... وعلي تسليم نفسي للشرطة.... لا...لن اسلم نفسي فسيخلد اسمي في تاريخ الجرائم.

لحظات وشعر بصداع يفجر رأسه، وألم فظيع في قلبه، وصعوبة في التنفس، ثم صرخ صراخا مدوياً، وارتمى على الأرض يتقلب يميناً ويسارا من شدة الألم ، ونطق بكلمات غير مفهومة.

و نطلق مهرولاً، وسار حتى وصل إلى الجسر الذي يربط شقي المدينة النائمة،قفز على حافة الجسر، وأصابه الدوار عندما ألقى نظرة خاطفة إلى أسفل، حيث ترقد مياه النهر، أغمض عينيه واستعد، فسمع صوتاً ينادي أنت لست مذنب

فتراجع

ترآت أمام عينيه صورة طفلة بريئة، تمسك بيدها وردة حمراء وتحتفظ بابتسامتها رغم موتها، فضغط على قبضته ، وقال محدثاً نفسه:

– أنا مشارك في الجريمة وان لم اسكب البنزين

وأغمض عينيه و تذكر لحظة عابرة من حياته التعيسة وهم بإلقاء نفسه ، فشعر بجسم دافئ يشد زراعه.

المبدع/النسر الابيض